لم يكن الإنسان الحجري الأول الذي اكتشف النار على دراية بأن ما فعله سيشكل حجر الأساس لواحد من أعظم المذاهب الفلسفية، وأكثرها إثارةً للجدل على مدى العصور، واليوم يعتبر موضوع بحث حول المذهب التجريبي في الفلسفة من أكثر المواضيع إثارةً للاهتمام. خاصةً عند المفكرين، وطلاب الفروع الأدبية، وأيضًا الراغبين بالتثقف في مجال المذاهب الفلسفية، وسبر أغوارها، واكتشاف أسباب تدهورها أو استمراها حتى اللحظة.

النظرية بمفهومها العام هي مجموعة المفاهيم، والأفكار التي يصل إليها الباحث، وذلك بناءً على الملاحظة لما يدور حوله من أحداث أو تجارب مختلفة، ولعل الغاية الكبرى من جميع النظريات تكمن في الحاجة إلى التوصل لاستنتاجات علمية تفسر مختلف العلاقات الوظيفية التي تربط بين مختلف المتغيرات في إطار زمني معين. كما تأتي النظرية بعد الفرضية العلمية التي يضعها الباحث، كخطوة مبدئية في اكتشاف العلاقة بين المتغيرات التي يلاحظها. ساعيًا في ذلك إلى وصف الظاهرة المدروسة أو التحكم بسيرها أو التنبؤ بها في المستقبل القريب أو البعيد.

بحث حول المذهب التجريبي في الفلسفة

الاتجاه التجريبي في الفلسفة

الفلسفة التجريبية أو الإمبريقية” هي اتجاه فلسفي يقوم على الإيمان بفكرة أن كل المعرفة البشرية تنبثق مباشرةً من التجربة. أي بمعنًى آخر أنها تأتي من خلال الحواس، والخبرة التراكمية. كما تعتبر الفلسفة التجريبية الخبرةَ سابقةً لكل معرفةً، فتنكر بشكل قطعي وجود أية معرفة أو أفكار فطرية عند الإنسان قبل وجود الخبرة العملية.

أما كلمة “إمبريقية“، فأصلها يوناني، وهي تشير إلى الخبرة، والخبرة في الفلسفة التجريبية تنبع مباشرةً من الحواس. كما أن مفهوم الإمبريقية يشير إلى كل ما يرتبط بدراسة المجتمع الإنساني، وذلك اعتمادًا على الحواس في كل مراحل الوصول إلى النظرية. ابتداءً من تحديد المشكلة، ومعرفة أسبابها، ثم جمع الحقائق، وتصنيفها، وتحليلها. انتهاءً بالمعرفة.

أسس المذهب التجريبي

  • التجارب تنشأ من تحفيز الأعضاء الحسية. أي الإحساس السمعي، والبصري، واللمسي، والذوقي، والشمي، ويضيف التجريبيون على ما سبق الإحساس الحركي. أي الإحساس بالحركة.
  • المعرفة هي نتاج التجربة فقط، والتجربة هي السبيل الوحيد لتمييز الحقائق، حقها من باطلها.
  • تركيز المذهب التجريبي على التجربة المتعلقة بظاهر المادة، وليس بحقيقتها أو باطنها.
  • رفض المذهب العقلاني رفضًا تامًا.
  • في المذهب التجريبي تتخذ الأمور منحًى معينًا في سيرها، وذلك من الخاص إلى العام. أي بمعنًى آخر، فهو يقوم على مبدأ “الجزء نحو الكل“.

تاريخ المذهب التجريبي

ترتبط البدايات الأولى للمذهب التجريبي بالظهور البشري على كوكب الأرض، فجلّ المعرفة التي اكتسبها الإنسان الحجري كانت نتيجةً مباشرةً لكثير من التجارب، فقد عمل الإنسان آنذاك على اختبار كل ما يحيط به من مواد، وأشياء لمعرفة ما يخدم مصلحته، ويتناسب معها، وأيضًا كل ما من شأنه أن يسبب له الضرر أو الأذية.

لا شك أن أول مثال يتبادر إلى ذهن الجميع عند الحديث عن المذهب التجريبي في الفلسفة هو اكتشاف النار، فقد استطاع الإنسان الحجري أن يشعل النار اعتمادًا على تجربة حجر الصوان، وبعد ذلك استنتج أن لهذا الحجر قدرةً على إشعال النار، وبعد تجارب أخرى على مختلف أنواع الأحجار الأخرى استنتج أيضًا أن القدرة على إشعال النار هي خاصة ينفرد بها حجر الصوان. دونًا عن باقي أنواع الحجارة.

مع مرور الزمن، بدأت أفكار المذهب التجريبي بالتبلور في أذهان كثير من المفكرين، والفلاسفة. أما البداية الفعلية للمذهب التجريبي في الفلسفة، فكانت في عهد الفيلسوف العظيم “سقراط“، ثم تفرعت عنه مجالات أخرى، وأهمها (طبيعة المادة)، و(النظريات الخاصة حول أصل الكون).

المسلمون والمذهب التجريبي

مع انبثاق الحضارة الإسلامية، وبلوغها مجدها العلمي، والسياسي، والديني برزت أعلام في مختلف المناطق التي امتدت فيها هذه الحضارة العريقة، والتي يعود لها فضل كبير في تطور الحركة التجريبية، وازدهارها، فقد انتهج كثير من العلماء المسلمين مبدأ التجريب للوصول إلى المعرفة، وعلى رأس هذه الأعلام العالم “جابر بن حيان“، وذلك في القرن الثاني للهجرة النبوية الشريفة. كذلك العالم “الحسن بن الهيثم” صاحب المؤلفات في علم البصريات، والتي اشتهرت في الغرب، لكن الحضارة الإسلامية مرت بفترة من الضعف، والاضمحلال الذي أدى إلى تراجع الحركة الفكرية، والعلوم التجريبية، وجمودها.

رواد الفلسفة التجريبية

يعود الفضل في تطوير المذهب التجريبي، وتمكين أفكاره إلى مجموعة من الفلاسفة الذين تركوا بصمتهم، وأسهمت أفكارهم بشكل أو بآخر في تطوير النظريات المعرفية اللاحقة. من أبرز هؤلاء الشخصيات نذكر:

  • الفيلسوف العظيم أرسطو طاليس.
  • توما الاكويني.
  • روجر بيكون.
  • فرانسيس بيكون.
  • توماس هوبز، وغيرهم الكثير.

المذهب العقلاني والمذهب التجريبي

هناك اختلافات كبيرة في المبادئ التي يقوم عليها كل من المذهب التجريبي، والمذهب العقلاني. إذ يؤخذ على المذهب التجريبي المعادلات الرياضية التي يمكن حلها دون اللجوء إلى التجربة أو الإحساس.

يمكننا تلخيص أبرز الفروقات بين المذهب التجريبي، والعقلاني بما يلي:

  • المعرفة التجريبية لا تسلم بوجود معرفة فطرية على غرار المعرفة العقلانية التي يعتقد مناصروها أن للإنسان معرفةً فطريةً رياضيةً، وأخلاقيةً. مثل مفاهيم الحب، والجمال، والفضيلة، وغيرها.
  • يؤكد التجريبيون على وجوب اختبار كل المعارف عبر التجارب الحسية، بينما يرى العقلانيون أن قوة العقل مستمدة من الحقائق البعيدة عن التجربة، والإدراك الحسي.
  • على سبيل المثال فيما يخص المعادلة الرياضية 1+1=2:
      • يرى التجريبيون أنه بإمكان الإنسان حل هذه المعادلة، وفهمها لأنه يعيشها خلال حياته في المنزل، والعمل، وطريقة اكتساب هذه المعرفة من خلال مراقبة الآخرين.
      • أما العقلانيون فيرون أن معرفة حل هذه المعادلة يكون بالفكرة أي لا يحتاج الإنسان في حلها إلى إجراء أية تجربة أو ملاحظة.

الفلسفة التجريبية عند جون لوك

عند الحديث عن المذهب التجريبي في الفلسفة لا بد أن نولي اهتمامًا خاصًا للفيلسوف الإنجليزي “جون لوك” رائد الفلسفة الحسية التجريبية، وصاحب المقولة الشهيرة “العقل صفحة بيضاء“.

يرى لوك، خلافًا للعقلانيين، أن كل أفكار العقل، ومبادئه، وقواعده تصدر عن التجربة فقط، فالعقل عند لوك يتلقى إحساسات خارجيةً تنبثق من الواقع المحيط أو من التجربة، ثم تتحول هذه الأحاسيس إلى أفكار يخزنها العقل، ويبنى عليها معتقداته اللاحقة.

في نهاية هذا البحث حول المذهب التجريبي في الفلسفة حري بنا أن نشير إلى أنه على الرغم من المآخذ على المذهب التجريبي، ورفض الكثيرين له في وقتنا الحالي، لكن لا يسعنا إلا أن نكون ممتنين لرواد هذا المذهب، ومعترفين بفضلهم في تطوير كثير من النظريات التي نسلم بها اليوم، فقد تركوا بصمتهم الحية في كثير من المذاهب الأخرى.